من كتاب القريتين و تراثها الشعبي للأستاذ غازي محمود الشلحة
قبل أن نتحدث عن القريتين وتراثها لابد من إعطاء القارئ لمحة جغرافية ثم تاريخية موجزة عن هذه المدينة الجميلة والعريقة في القدم.
فالقريتين الواقعة إلى الجنوب الشرقي من مدينة حمص, تبعد عنها حوالي (95) كم عن طريق مهين- صدد, و (120) كم عن مدينة تدمر, وضمـن حدود بادية الشام ( المصور رقم 2).
المصور رقم ( 2 ) يبين القطر العربي السوري وفيه يتبين موقع مدينة القريتين
القريتين تاريخياً قديمة قدم الينابيع المتفجرة فيها, فقد سكنها الإنسان الأول منذ عصور ما قبل التاريخ ( قبل 3200 ق0م ), حيث سكن هذا الإنسان الكهوف والمغاور, واقتات بثمار الأشجار الطبيعية وحيواناتها, ثم بدأ بتشييد المنازل بعد أن عرف الزراعة والاستقرار ولاسيما قرب الأنهار كنهر وادي العين, والينابيع الجارية الكثيرة فيها, ومن هنا بدأت القريتين بالنمو وتعاقبت عليها العصور التاريخية وتعددت أسماؤها خلالها فهي نَزَالا (نَشَالا) من أيام السومريين (أقدم الأمم التي سكنت جنوب العراق وقد انتهت دولتهم 2360 ق0م ), وهي ( قِرْيتايم ) التي تعود إلى أيام الكنعانيين حوالـــي 1900 ق.م, كما هي ( حَصَر عينان) أي مجمع العيون عند الآراميين 1450 ق. م.
وإن ورود ( قِرْيَتايم ) في التوراة اليهودية في سفر التكوين 14 / 5, و (حَصَر عينان) في سفر العدد 34/7-9, يشير إلى وجودهما قبل التوراة التي بُدِأ في كتابتها في القرن السادس قبل الميلاد(1), والقريتين هي سَميرام عند الآشوريين الذين بدّلوا أسماء المدن المغلوبة, وهي أم القلايد عند البدو.
لقد نشر الباحث الفرنسي (وادينغتون) عام 1847 م دراسة وقراءة لكتابة مكتشفة في القريتين مدونة بالقلم اليوناني وتعود للعصر الروماني وتتضمن الكتابة اسم (نـَزالا), وهو الاسم القديم للقريتين(2) وذلك فـي كتابه الذي سماه (وسط سورية), كما أثبتت الألواح الطينية أي الرقم المكتشفة في مملكة ماري( 3 ) الواقعة على نهر الفرات قرب البوكمال في مكان يدعى تل الحريري والتي هي أهم ممالك العموريين الذين وصلوا إلى بلاد الشام من جزيرة العرب حوالي 2500ق. م, حيث أثبتت هــذه الألواح اسم نـــَــزالا بلفظــة ( _ sa _la _a Na), وفي أحد الألواح ما يشير إلى استنجاد حاكم نزالا بملك مملكة ماري في الألف الثانية قبل الميلاد ونجدة الأخير له.
كما كانت نزالا ( القريتين ) في القرن الثامن عشر قبل الميلاد تتبع مملكة قطْنة وقد عُرف من ملوكها أموت بيل ( Amut – Piel ) الذي كان حاكماً لنزالا ( Nazala ) وولياً للعهد, وقد أصبـــــــــــــح ملكاً على مملكة قطنة ( Qatna ) بعد وفاة والده إشــــــــــــــــــــــــــخي أدد ( Ishchi Adad ) الذي يعد مؤسس السلالة الأمورية منذ أواخر القرن التاسع عشر قبل الميلاد , ويعد الملك أموت بيل من الملوك الأقوياء الأربعة الذين حكموا المنطقة وهم حمورابي ملك بابل وريم سين ملك لارســـــــــــــــــا وياريم ليم ملك يمحاض وأموت بيل ملك قطْنة . المصور رقم ( 5 ) .
المصور رقم ( 5 ) يبين مملكة قطنة وأهم مدنها نزالا ( القريتين )
أولاً: الزراعة:
فالزراعة قديمة في القريتين, وهي مروية وبعلية, والزراعة المروية تحيط بالقريتين ولاسيما في شرقها وغربها, وأما البعلية فهي خارج القريتين ولا سيما في شمالها وشمالها الشرقي حيث حوض الدو الواسع وسنتحدث عن الزراعتين البعلية والمروية بالتفصيل, وقد وجد في القريتين نظام إقطاعي لكنه انتهى دون تطبيق قانون الإصلاح الزراعي, فقد انتقلت ملكية الأراضي للفلاحين عن طريق البيع والشراء وكذلك ملكية المياه و ( الصورة رقم 50 ) الآغا فياض مع عائلته عام 1900م ( 1 ) .
الصورة رقم (50) الآغا فياض الفارس مع عائلته, تصوير جير ترود بيل
إن المادة المتوفرة لبناء المسكن والوضع المادي والاجتماعي لصاحبه هي التي كانت تقرر الشكل العام للمسكن وحجمه وأقسامه, ولقد تطور المسكن في القريتين خلال القرون الماضية تطوراً ملحوظاً وذلك من مرحلة تاريخية إلى أخرى, ولذا نجد عدة نماذج حالياً يتجاور بعضها مع بعض كما يتجاور البناء الحديث مع البناء القديم, بعد أن قام سكان القريتين بهدم الكثير من البيوت القديمة وحولوها إلى منازل حديثة, إلا أن بعض الأبنية القديمة مازالت شاهدة على تلك المراحل التاريخية رغم عاديات الزمن وقسوة المناخ والإنسان عليها, ويهمنا هنا المسكن القديم الذي ورثهُ الأبناء عن الآباء والأجداد, والذي ما زال يقوم بدوره الذي أقيم من أجله.
إن المسكن القديم في القريتين مسكن طيني - خشبي, فالطين يدخل في بناء جدرانه ويستعان بالخشب في بناء سقفه, والمقصود بالطين اللبن المصنوع في قالب خشبي له شكل متوازي المستطيلات بسماكة حوالى ( 9 ) سم, ويتألف هذا القالب من قسمين الأول ضعف الثاني, ويعطي القسم الأول لبنـة كاملــة ( 28 × 28 سم ) والثانـي نصـف لبنـة ويدعـى (النُّص) ( 28 × 14 سم ) ( الصورة رقم 26 ).
صورة ( 26 ) القالب الخشبي المستخدم في ضرب اللبن والدسكر
رغم قلة التعليم في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أيام الحكم العثماني لبلادنا فقد كانت الخرافات والأساطير قليلة وهذا القليل سببه الجهل, وهي حكايات تتعلق برؤية الجن من قبل أفراد في أماكن معينة في القريتين, حتى أصبحت هذه الأماكن مشهورة, بيد أن تلك الحكايات لم يعد لها وجود بسبب انتشار العلم في كل بيت من بيوت القريتين, أما الحكايات والملاحم الشعبية فما أكثرها, ولكل فئة من فئات المجتمع حكاياتها وقصصها, فللفلاحين حكاياتهم الخاصة, وكذلك للنساء والصيادين والتجار... إلخ, وهذه الحكايات تحكى خلال سهراتهم, فقد كانوا يحكون ويقرؤون في سهراتهم قصصاً مثل قصة نمر العدوان وزوجته وَضْحى وولده عقاب وقصيدته الجميلة والحزينة التي يخاطب بها ولده بعد وفاة أمه, وقصة الصلبـي الذي خرج لصيد الغزلان مع ولده الوحيد ( فهد ) فقتله خطأً فنظم قصيدة حزينة ومؤثرة جداً وأرسلها لنمر العدوان ليخفف من حزنه على زوجته , فكأنه يقول له أين مصيبتك من مصيبتي يا نمر؟ ! وقصة عبد الله الفاضل وترك قبيلـته لـه مع كلبه شير بسبب الجدري, وقصة بِشر وحبه لابنة عمه حُسُن, والكثير من القصص الجميلة التي تعج بها البادية ومنها القريتين والتي في ثناياها قصائد تغنى على الرباب, كما توجد حكايات وقصص قروانية كثيرة يعرفها الآباء ويجهلها الأبناء, تعبر عن واقع معين عاشه أبناء القريتين أيام الاحتلال الفرنسي وحكم الإقطاع لوطننا الغالي سورية, وسنقتصر على بعض القصص المعبرة عن هذا الواقع :
الأفراح في القريتين كثيرة ومناسباتها متعددة وأهمها حفل الزفاف, وما يدور فيه من أغان, فالزفاف فرحة كبرى لأهل العروسين وذويهما, ورغم أن لكل بلد عاداته وتقاليده في ذلك لكن تبقى هنالك قواسم مشتركة بين هذه العادات, ولا بد من وصف العرس من البداية وحتى النهاية.
الحياة فيها الفرح وفيها الحزن, والإنسان تبدأ حياته بالولادة وتنتهي بالموت, وهذه سنة الحياة, والواقع أنه ما إن يعلن نبأ وفاة فلان أو فلانة حتى ترى النساء يذهبن وقد اتشحن بالسواد إلـى بيت المتوفى, وما إن يدخلن بيته حتى يأخذن بالندب والعويل على الميت وذكر محاسنه, وكن فـي السابق ولاسيما المقربات منه يمزقن ثيابهن الخارجية, ويلطمن الخدود ويخمشنها, وكن يكثحن ( يَحْثِيـنَ ) التراب أو السكن المتبقي من رماد التنور على رؤوسهن, ولاسيما عندما يكون المتوفَّى شاباً أو أن تكون الوفاة بسبب حادث, ويرافق ذلك الولولة, كما كن يغبن عن الوعـي, مما يستدعي رش الماء على وجوههن, أو وضع الحوارة على الشفة العليا كمنعش لهن, لكن هذه الأمور بدأت تندثر حالياً, كما يطلبن رؤيته ولاسيما أمه وزوجته وبناته وأخواته, مع رفض الرجال ذلك, ونتيجة إصرارهن يسمح لذويه برؤيته قبل خروجه من المنزل, وإذا كان المتوفى شاباً شهيداً وعازباً تسمع زغاريد النسوة أثناء خروج جنازته وكأنه يُزف إلى جنة الخلد حيث الحور العين, وكان الرجال يمشون وراء الجنازة وهم يرددون ( بنغمة حزينة ) :
لا إلـه إلاّ الـلّه لا إلـه إلاّ الـلّه
محمـدٌ رسولُ اللّـه صلّى الـلّه عليه وسلّم
1ً- المعتقد الديني :
للأديان أهمية خاصة في التراث وجوانبه المتعددة, كونها تؤثر على حياة الفرد ومعيشته وطريقة تفكيره ونظرته للأمور, كما تؤثر على المجتمع من خلال حجم الأسرة وتحديد النسل والطلاق وتعدد الزوجات, و ينعكس أثرها على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفنية السائدة, ومن هنا كان لابد من التطرق لهذا الموضوع الذي يفسر الكثير من حوانب هذا التراث.
يشكِّل المسلمون حالياً حوالي ( 90 % ) من تعداد نفوس القريتين الذي تجاوز ( 32 ) ألفاً, يقيم منهم فيها فعلياً نحو ( 14500 ) فقط, منهم ( 1300 سريان أرثوذكس و 320 سريان كاثوليك )( 1 ), ولقد دخل الإسلام القريتين قبل معركة اليرموك (15 هجريةـ 636 ميلادية) عندما مر بها سيف الله المسلول خالد بن الوليد قادماً من العراق لنجدة جيش الصحابي أبي عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنهما فـي الشام 0
جاء في كتاب الأغنية الشعبية للدكتور أحمد مرسي تعريف الأغنية الشعبية قائلاً: ( الأغنية الشعبية هي الأغنية المرددة التي تستوعبها حافظة جماعة, تتناقل آدابها شفاهاً, وتصدر في تحقيق وجودها عن وجدان شعبي ) ( 1 ).
كان التعليم في الماضي يقتصر على الكتاتيب ( عند الشيخ ) ولقد أتقن آباؤنا القراءة والكتابة على يد الشيخ سعيد محـمد الخطيب (1870 – 1948) م, والشيخ أبي إدريس أحمد الكراش (الهدبة) (1904 – 1990 ) أو في المدرسة الإنجيلية الوطنية ( مدرسة سليمان جبور أو كما يقال آل جبور )(1) وهي من النشاط البروتستانتي في بلادنا (نشاط له جانب تعليمي وآخر صحي ) بإشراف الدنمارك, وأشهر من درّس فيها المربي والشاعر توفيق جبور وشاركنه بعض المعلمات , وقد ضمت صفوف المرحلة الابتدائية من الأول وحتى الخامس, وموادها هي المواد التي تدرسها وزارة المعارف السورية في ذلك الوقت, وكانت تقـع في حارة المعاصـر ( الحي الشرقي ), كما فتحت في القريتين المدرسة الكاثوليكية وهي ابتدائية تقع بالقرب من شركة الكهرباء ومجاورة للكنيسة, وقد أغلقت المدرستان لانتشار المدارس الرسمية.
الألعاب الشعبية نشاطات تقليدية يمارسها الناس ضمن إطار المجتمع وفي أوقات الفراغ, ولكل سن وجنس ألعابه الخاصة به, فهناك ألعاب تخص الأطفال وأخرى تخص الكبار, كما أن لكل من الذكور والإناث ألعاباً تناسبهم, وقد تكون هذه الألعاب مريحة وسهلة أو مجهدة ومرهقة, وقد تمارس في أي زمان أو في وقت محدد ومن هنا سيتم تقسيم الألعاب إلى :
1ً- اللهجة في القريتين : لهجة ابن القريتين مميزة عن المناطق المجاورة, وهي واضحة وقريبة من الفصحى لكنها لا تخلُ من كلمات عاميّة أو بدوية أو من أصول سريانية, ولقد أفادنـي مشكوراً صديقـنا السيد برصوم كسّاب راعي كنيسة السّـريان الأرثوذكس في القريتين بجدول يتضمن الألفاظ المتداولة في القريتين ذات الأصل السريانـي وقد اخترت منها ما يلي :
آ-الأمْثالُ والْحِكَم :
المثل هو عصارة فكر الإنسان وقول سائد بين الناس, وهو ما يُمثَّل به الشيء بلفظٍ فيه الإيجاز, ومعنى فيه الإصابة, وتشبيه فيه الجمال, ولذا فهو نهاية البلاغة, كما أنه سهل التداول من خلال ما فيه من جناس أو استعارة أو سجع ولقد ألفت فيها الكثير من الكتب في القديم, وهي متوارثة, جاء في كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي قوله :
تمر حياة الفرد في القريتين عبر مراحل عدة يتعايش معها من الولادة وحتى الوفاة وذلك ضمن مجتمع له أفكاره وقيمه وتقاليده وعاداته, وبيئة لها وضعها الخاص, وهنا سنـتحدث عن هذه المراحل بالترتيب وذلك من المهد إلى اللحد:
الشعر الفصيح
قيل: ( الناسُ ثلاثةُ أجناس, جنسٌ تحتَ الأرضِ, وجنسٌ فوقَ الأرضِ, وجنسٌ بينَ السماءِ والأرضِ, فالأولُ مَنْ لا يقرأ الشعرَ, والثانـي مَن يقرأه, والثالث مَن يقوله ), كما قيل : (الشعرُ ديوانُ العربِ ), ومن أشهر الشعراء في القريتين الذين توفاهم الله تعالى الشاعران توفيق سليمان جبور (1) وفارس الفياض وخوفاً على شعرهم من الضياع, وكون هذه القصائد لها مناسباتها فاستميح القارئ عذراً لوضعها فقط في هذا الكتاب, فكتابتها تعطي صورة عن قدم الحركة الأدبية في القريتين, وتدل على وجود شعراء كتبوا بالفصحى في وقت عمّ فيه الجهل.
1ً- القريتين ( أهلها وأصلهـم ):
ذكرنا في الباب الثانـي وجود مخطوطتين حول أصول بعض العائلات فـي القريتين, إحداها نشـــــــــرتها عام 1992م, علماً أن النســـــخة الثانية نشــرها الباحث ســــــــــليم نعيم الزهراوي في كتابه ( جذور ريف حمص ), وما نشره الزهراوي يتضمن معلومات خاطئة ومخالفة للنسخة التي نشرت عام 1992م في كثير من النقاط, ولذا قمت بالرد على ماجاء في الكتاب المذكور, وأرسل هذا الرد إلى صحيفة العروبة تحت عنوان ( الهالوك في جذورالقريتين، والهالوك نبات متطفل يضعف البنات).